الذكاء الاصطناعي يكشف أسرار الثقوب السوداء: هل يمكن الوثوق بالصور الجديدة؟

“`html

يستمر الكون في الكشف عن أسراره العميقة، غالبًا بفضل التطورات التكنولوجية الرائدة. ومن بين الأجرام السماوية الأكثر غموضًا هي الثقوب السوداء، التي تشوه جاذبيتها الهائلة الزمكان وتمنع حتى الضوء من الهروب. في قلب مجرتنا درب التبانة، يقع القوس أ* (Sagittarius A* أو Sgr A*)، وهو ثقب أسود فائق الكتلة لطالما كان محورًا لاهتمام علمي مكثف وتحديًا رصديًا. الصورة الأولى على الإطلاق للقوس أ*، التي كُشفت في مايو 2022 بواسطة تعاون تلسكوب أفق الحدث (EHT)، مثلت إنجازًا تاريخيًا، مقدمة لمحة عن هذا العملاق الكوني. ومع ذلك، فإن السعي وراء رؤى أوضح وأكثر تفصيلاً لا يتوقف أبدًا. مؤخرًا، ظهر مجال جديد: تطبيق الذكاء الاصطناعي (AI) لتحسين هذه الملاحظات الفلكية المعقدة. بينما يعد هذا النهج المبتكر واعدًا، فقد أثار أيضًا نقاشًا، حيث أعرب بعض الخبراء البارزين، بمن فيهم حائز على جائزة نوبل، عن حذرهم بشأن موثوقية الرؤى المولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي.

السعي وراء رؤى أعمق: الذكاء الاصطناعي يدخل المعركة

على الرغم من النجاح التاريخي لتلسكوب أفق الحدث في التقاط الصورة الأولية للقوس أ*، إلا أن البيانات التي تم جمعها معقدة بشكل لا يصدق وغالبًا ما تكون محفوفة بالتحديات. تلسكوب أفق الحدث نفسه ليس مجرد أداة واحدة، بل هو شبكة عالمية من التلسكوبات الراديوية المترابطة لتشكيل مرصد افتراضي بحجم الأرض. تتيح هذه التقنية، المعروفة باسم التداخل عالي القاعدة جدًا (VLBI)، لعلماء الفلك تحقيق دقة زاوية غير مسبوقة، وهو أمر ضروري لتصوير الأجسام الصغيرة والبعيدة مثل أفق الحدث للثقب الأسود.

تحديات رصد القوس أ*

طبيعة ملاحظات التداخل عالي القاعدة جدًا للقوس أ* بحد ذاتها تقدم عقبات كبيرة. الموجات الكهرومغناطيسية التي يستخدمها تلسكوب أفق الحدث، وغالبًا في نطاق الملليمتر، معرضة بشدة للتداخل من الغلاف الجوي للأرض، خاصة من بخار الماء. يمكن لهذا التشويش الجوي أن يجعل أجزاء كبيرة من البيانات المجمعة “صاخبة”، مما يعني أن الإشارة مشوهة لدرجة يصعب تفسيرها باستخدام الطرق التحليلية التقليدية. لسنوات، اضطر العلماء إلى التخلص من كميات هائلة من بيانات الملاحظات القيمة لمجرد أنها كانت ملوثة للغاية لتكون مفيدة. هذا القيد حد من قدرتنا على توصيف القوس أ* والظواهر الكونية البعيدة الأخرى بشكل كامل.

كيف يتم نشر الذكاء الاصطناعي

إدراكًا لقيود معالجة البيانات الكلاسيكية، شرع فريق دولي من العلماء، بقيادة عالم الفيزياء الفلكية مايكل يانسن من جامعة رادبود في هولندا، في مشروع طموح: تسخير قوة الذكاء الاصطناعي لاستخلاص المعلومات المخفية من بيانات تلسكوب أفق الحدث الصاخبة وغير القابلة للاستخدام سابقًا. كان فرضيتهم هي أن شبكة عصبية، وهي نوع من نماذج الذكاء الاصطناعي المصممة للتعرف على الأنماط في مجموعات البيانات المعقدة، يمكنها “الرؤية” عبر التشويش الجوي وتجميع صور متماسكة. كما أوضح يانسن، “الشبكة العصبية مناسبة تمامًا لحل هذه المشكلة”، من خلال تعلم التمييز بين الإشارات الفلكية الحقيقية والضوضاء العشوائية، حتى عندما تكون الأخيرة طاغية.

قام الفريق بتدريب نموذج الذكاء الاصطناعي الخاص بهم على هذه البيانات المتجاهلة والصاخبة لتلسكوب أفق الحدث، مما علّمها بشكل أساسي تمييز الهيكل الأساسي للقوس أ* على الرغم من التداخل الكبير. كان الهدف هو إنشاء صور ثقوب سوداء أكثر تفصيلاً على الإطلاق، ودفع حدود ما كان يُعتقد أنه ممكن باستخدام مجموعات بيانات الملاحظات الحالية. النتائج، التي نُشرت مؤخرًا في مجلة Astronomy & Astrophysics، قدمت بالتأكيد وجهات نظر جديدة رائعة حول الثقب الأسود المركزي لمجرتنا.

كشوفات الذكاء الاصطناعي: عملاق يدور بسرعة

قدمت الصورة المولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي للقوس أ* بعض التفاصيل الجديدة الرائعة حول هيكله وسلوكه، وهي ميزات لم تكن واضحة من صورة تلسكوب أفق الحدث الأصلية وحدها. ربما كان الاكتشاف الأكثر إثارة للإعجاب هو التأكيد على أن القوس أ* يبدو أنه يدور “بأقصى سرعة تقريبًا”. يشير هذا إلى أقصى سرعة دوران نظرية يمكن أن يحققها الثقب الأسود، حيث يدور حدوده الخارجية (أفق الحدث) بسرعة تقارب سرعة الضوء. بالإضافة إلى ذلك، اقترح نموذج الذكاء الاصطناعي أن محور دوران الثقب الأسود يبدو أنه يشير مباشرة نحو الأرض.

هذه النتائج، إذا تم التحقق منها، لها آثار عميقة على فهمنا للثقوب السوداء وبيئاتها المباشرة. دوران الثقب الأسود خاصية أساسية، إلى جانب كتلته، تحدد هندسة الزمكان حوله. على سبيل المثال، يمكن للثقب الأسود الدوار بسرعة أن يسحب الزمكان حول نفسه، وهي ظاهرة تُعرف بسحب الإطار، والتي يمكن أن يكون لها آثار كبيرة على قرص تراكم المادة الذي يتصاعد نحوها. تحديد سرعة دوران القوس أ* سيقدم للعلماء أدلة حاسمة حول العديد من العمليات الفيزيائية الفلكية الرئيسية:

  • سلوك الإشعاع: يساعد فهم الدوران في نمذجة كيفية سلوك الإشعاع في البيئة الجاذبية المتطرفة القريبة من الثقب الأسود الفائق الكتلة. هذا ضروري لتفسير الضوء وإشارات الراديو التي نتلقاها من هذه الأجسام.
  • استقرار قرص التراكم: يتأثر استقرار وديناميكيات قرص الغاز والغبار الذي يغذي الثقب الأسود بدوره. يمكن لفهم أفضل لدوران القوس أ* أن يسلط الضوء على كيفية سقوط المادة فيه وكيف يمكن إطلاق نفاثات من المواد من قطبيه، على الرغم من أن القوس أ* نفسه لا يمتلك نفاثات بارزة حاليًا.
  • تطور الثقب الأسود: يوفر الدوران أيضًا رؤى حول تاريخ تشكيل الثقب الأسود وتطوره، حيث يتم تجميع زخمه الزاوي من خلال سقوط المادة واندماجه مع ثقوب سوداء أخرى.

صوت حذر: منظور حائز جائزة نوبل

بينما كانت كشوفات الذكاء الاصطناعي مثيرة، إلا أنها لم تلق قبولًا عالميًا. يتطلب المجتمع العلمي، بطبيعته، التحقق الصارم والتشكيك، خاصة عند تقديم طرق جديدة رائدة. يأتي صوت بارز للحذر من راينهارد غينزل، عالم الفيزياء الفلكية في معهد ماكس بلانك للفيزياء خارج الأرض في ألمانيا والمشارك في جائزة نوبل في الفيزياء عام 2020 لعمله الرائد على القوس أ* نفسه.

معضلة البيانات الصاخبة

صرح غينزل، مع اعترافه بموقفه “المتعاطف والمهتم جدًا” تجاه النهج الجديد للذكاء الاصطناعي، علنًا عن تحفظاته لـ Live Science، مؤكدًا أن “الذكاء الاصطناعي ليس حلاً سحريًا”. ينصب قلقه الأساسي على جودة بيانات الإدخال. تم تدريب نموذج الذكاء الاصطناعي، جزئيًا، على بيانات تلسكوب أفق الحدث التي تم اعتبارها سابقًا صاخبة للغاية وغير مفيدة من خلال التقنيات الكلاسيكية. ينبع تشكيك غينزل من احتمال أن تؤدي هذه البيانات ذات الجودة المنخفضة بطبيعتها إلى تحيز مخرجات الذكاء الاصطناعي بطرق غير متوقعة. إذا كانت البيانات الأساسية تالفة بشكل كبير أو غير مكتملة، فقد ينتج حتى أكثر أنظمة الذكاء الاصطناعي تطورًا نتائج أقرب إلى التخمينات المستنيرة أو حتى اختلاقات، بدلاً من تمثيلات دقيقة للواقع. كما أشار غينزل، فإن الصورة الجديدة، المشتقة من مثل هذه البيانات، “لا ينبغي أخذها على محمل الجد” وقد تكون “مشوهة إلى حد ما”.

ما وراء الضجيج: الحاجة إلى التحقق الصارم

يؤكد هذا القلق على نقاش أوسع داخل المجتمع العلمي حول الدور المتزايد للذكاء الاصطناعي في الاكتشاف. بينما يوفر الذكاء الاصطناعي قدرات لا مثيل لها في التعرف على الأنماط ومعالجة البيانات والمحاكاة المعقدة، فإن طبيعة “الصندوق الأسود” لبعض نماذج الذكاء الاصطناعي تعني أن كيفية وصولها إلى استنتاجاتها يمكن أن تكون غامضة. عند استخدام الذكاء الاصطناعي لاستخلاص الحقائق العلمية، يصبح من الضروري التأكد من أن النماذج لا تبتكر أنماطًا أو تضخم التحيزات الموجودة في البيانات الصاخبة. يعتمد المنهج العلمي على قابلية التكرار والتحقق، ويجب على أي رؤية مولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي في النهاية أن تصمد أمام التدقيق من الملاحظات المستقلة أو التنبؤات النظرية.

آليات الرصد: تلسكوب أفق الحدث والتداخل عالي القاعدة جدًا

لتقدير التحدي والإمكانيات للذكاء الاصطناعي في هذا السياق بشكل كامل، من المفيد فهم تقنيات الملاحظة المعنية. مشروع تلسكوب أفق الحدث هو إنجاز رائع للتعاون الهندسي الدولي. من خلال ربط مراصد الراديو عبر القارات – من هاواي وأريزونا إلى تشيلي وإسبانيا وأنتاركتيكا – ينشئ تلسكوب أفق الحدث فعليًا طبق تلسكوب افتراضي بحجم الأرض نفسها. يوفر هذا الخط الأساسي الهائل الدقة الزاوية اللازمة لتصوير “الظل” الصغير للغاية الذي يلقيه أفق الحدث للثقب الأسود مقابل قرص التراكم المتوهج حوله.

يعمل التداخل عالي القاعدة جدًا عن طريق تسجيل إشارات الراديو من مصدر كوني في وقت واحد في تلسكوبات متعددة متباعدة جغرافيًا. يتم بعد ذلك تجميع البيانات المسجلة، مع الطوابع الزمنية بالساعات الذرية، وتنسيقها في أجهزة الكمبيوتر العملاقة. تسمح الاختلافات الطفيفة في أوقات وصول موجات الراديو في كل تلسكوب، بسبب مواقعها المختلفة، للعلماء بإعادة بناء صورة بدقة تعادل طبق تلسكوب واحد بنفس قطر أقصى فاصل بين التلسكوبات الفردية. ومع ذلك، كما ذكرنا، فإن المسار الذي تسلكه موجات الراديو هذه عبر الغلاف الجوي للأرض، وخاصة من خلال الكميات المتقلبة من بخار الماء، يمكن أن يقدم تشوهات طور وسعة كبيرة، مما يؤدي إلى “الضوضاء” التي تعيق إعادة بناء الصور التقليدية. هذا هو بالضبط نوع الضوضاء المعقدة وعالية الأبعاد التي يتم تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على تصفيتها أو تعويضها.

الآثار الأوسع للذكاء الاصطناعي في علم الفلك

يثير النقاش المحيط بالصورة المولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي للقوس أ* لحظة محورية في البحث العلمي. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة لمعالجة البيانات؛ بل أصبح شريكًا في عملية الاكتشاف، قادرًا على تحديد الأنماط الدقيقة التي قد تفوت المحللين البشريين أو استخلاص المعلومات من مجموعات البيانات التي كانت تعتبر سابقًا غير قابلة للاختراق. يمتد تطبيقه إلى ما هو أبعد من تصوير الثقوب السوداء:

  • اكتشاف الكواكب الخارجية: يمكن للذكاء الاصطناعي فحص كميات هائلة من بيانات منحنى ضوء النجوم للكشف عن الانخفاضات الخافتة التي تشير إلى عبور الكواكب الخارجية.
  • تصنيف المجرات: يمكن لخوارزميات التعلم الآلي تصنيف المجرات بناءً على شكلها، مما يسرع عمليات المسح السماوي واسعة النطاق.
  • الكشف عن الموجات الثقالية: يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة في تصفية الضوضاء الأرضية من إشارات الموجات الثقالية، مما يحسن حساسية الكواشف مثل LIGO و Virgo.
  • فيزياء الشمس: يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات الملاحظات الشمسية القديمة لفك أسرار أعمق حول ديناميكيات شمسنا والطقس الفضائي.

الذكاء الاصطناعي كأداة قوية، وليس بديلاً

ومع ذلك، فإن التشكيك من شخصيات مثل غينزل بمثابة تذكير حاسم بأن الذكاء الاصطناعي، على الرغم من قوته، ليس بديلاً للمبادئ العلمية الأساسية أو الخبرة البشرية. إنها أداة تعزز قدراتنا، ولكن يجب دائمًا إخضاع مخرجاتها لنفس التدقيق الصارم مثل أي نتيجة علمية أخرى. لا تزال المقولة “قمامة تدخل، قمامة تخرج” ذات صلة كبيرة؛ إذا كانت بيانات الإدخال معيبة أو تم تفسيرها بشكل خاطئ، حتى الذكاء الاصطناعي المتقدم يمكن أن ينتج نتائج مضللة.

ضمان المتانة والموثوقية

لكي يكون الذكاء الاصطناعي تحويليًا حقًا في العلوم، فإن العديد من الاعتبارات بالغة الأهمية:

  • الشفافية وقابلية التفسير: يحتاج العلماء إلى فهم كيفية وصول نموذج الذكاء الاصطناعي إلى استنتاجاته، خاصة في المجالات التي تكون فيها الدقة ذات أهمية قصوى. “الذكاء الاصطناعي القابل للتفسير” (XAI) هو مجال ناشئ يركز على جعل نماذج الذكاء الاصطناعي أكثر شفافية.
  • التحقق الصارم: يجب مقارنة النتائج المشتقة من الذكاء الاصطناعي بشكل مثالي مع بيانات الملاحظات الأخرى، أو النماذج النظرية، أو طرق التحليل التقليدية لتأكيد دقتها.
  • التعاون: غالبًا ما يتضمن الاستخدام الأكثر فعالية للذكاء الاصطناعي في العلوم تعاونًا وثيقًا بين متخصصي الذكاء الاصطناعي وخبراء المجال (علماء الفلك، الفيزيائيين، إلخ). يقدم خبراء المجال السياق العلمي اللازم والتقييم النقدي، بينما يقدم متخصصو الذكاء الاصطناعي المعرفة التقنية.

التحرك إلى الأمام: تحسين النماذج والتوقعات المستقبلية

يدرك مايكل يانسن وفريقه جيدًا الحاجة إلى التحقق. تتضمن خططهم المستقبلية تطبيق تقنية الذكاء الاصطناعي الخاصة بهم على أحدث بيانات تلسكوب أفق الحدث، والتي تتضمن تحسينات في تقنيات الملاحظة وقد تكون أقل ضوضاء بطبيعتها. من خلال مقارنة صورهم المحسنة بالذكاء الاصطناعي مع النتائج المشتقة من تحليلات تقليدية أكثر قوة لبيانات أعلى جودة، يأملون في تحسين نموذجهم وتعزيز موثوقية المحاكاة المستقبلية. هذه العملية التكرارية للابتكار والاختبار والتحسين أساسية للتقدم العلمي.

السعي لفهم القوس أ* والثقوب السوداء الفائقة الكتلة الأخرى لم ينته بعد. مع استمرار التكنولوجيا في التقدم، ستؤدي العلاقة التكافلية بين البراعة البشرية والذكاء الاصطناعي بلا شك إلى فك أسرار أعمق للكون. المناقشة المستمرة المحيطة بصورة الثقب الأسود المولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي ليست مجرد نقاش علمي؛ إنها شهادة على التزام المجتمع العلمي بالحقيقة والدقة، مما يضمن أن كل معلومة جديدة، بغض النظر عن كيفية اشتقاقها، تساهم بشكل موثوق في معرفتنا الجماعية بالكون.

“`

Leave a comment